إذا ما أزحنا تأثير الإعلام الموجَّه، لا سيما إعلام الدول الكبرى والإعلام الآخر المرتبط بها، إذا ما أزحنا تأثيره على وعينا وقناعاتنا وتصوراتنا للأحداث القريبة والبعيدة، وإذا ما أدركنا زيف الدعاوى، التي تروج لها هذه الدول وأجهزتها المختلفة، كحقوق الإنسان وتصدير الديمقراطية، إلى بلدان بعينها، دون سواها، لتخفي تحت غطائها الجذاب مصالحها ومخططاتها وأهدافها الحقيقية، مستغلة توق الشعوب المقموعة إلى الانعتاق من قيود الظلم والاستبداد والاستغلال، الذي يمارسه حكامها عليها، فكيف سنرى الصورة الحقيقية والوقائع الفعلية على الأرض؟ لنتخيل نهراً جميلاً تنساب مياهه الرقراقة، راسمة لوحة مريحة للنفس، ملهمة للمبدعين من الشعراء والفنانين. فإذا ما جفت مياه النهر تلك، فماذا سيبقى في النهر غير جيف بعض الحيوانات النافقة وبقايا خرق بالية وأحذية قديمة وعلب فارغة صدئة مغطاة بالطحالب الجافة والأوساخ. إنها لوحة مفزعة صادمة، كانت تختفي تحت غطاء من المياه المنسابة. هكذا ستبدو الصورة الحقيقية لما يدور في عالمنا المعاصر، إذا ما نُزع عنها غطاؤها الخادع، الذي يموه به الكبار ما يضعونه من مخططات وما يمارسونه من سياسات، وما يرتكبونه من جرائم إنسانية، وما يرسمونه من خرائط جديدة، لتفكيك الكيانات السياسية في البلدان الضعيفة، إلى كيانات أكثر ضعفاً وأكثر ارتهاناً وتبعية.
ولم تكن القوى الاستعمارية وقادتها وأجهزتها الأمنية وبعض مراكزها البحثية مهووسة برسم خريطة جديدة للوطن العربي وحده (خريطة الشرق الأوسط الجديد)، بل وبرسم خرائط للعالم كله، تحقق من خلالها هيمنتها على الكرة الأرضية. إلا أن الوطن العربي قد حظي من هذا الإبداع الاستعماري بالنصيب الأوفر، بحكم موقعه وثرواته ووجود الكيان الصهيوني المزروع في فلسطين، الذي يؤدي دوراً وظيفياً مهماً في خدمة المصالح الاستعمارية، والذي يتطلب استمرار وجوده مزيداً من تفتيت وإضعاف الدول العربية المحيطة به.
وللتدليل على نظرة الدول الكبرى إلى العالم، تكفي الإشارة إلى نظرة الدولة الأكبر في التاريخ المعاصر، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى توجهها نحو إعادة تقسيم العالم وإضعافه والهيمنة عليه. ولنقتبس هنا فقرة من ص 116 في الترجمة العربية لكتاب (إرث من الرماد، تاريخ السي. آي. إيه)، لمؤلفه تيم واينر، تعبر عن فحوى هذه النظرة:
"اعتقد فوستر بقوة أنه على الولايات المتحدة القيام بكل ما في وسعها لتغيير أي نظام لا يتحالف جهاراً مع الولايات المتحدة، أو إلغائه. ووافقه ألن من صميم قلبه. وشرعا، بمباركة من آيزنهاور، في التخطيط لإعادة رسم خريطة العالم".
والمقصود هنا بفوستر، هو جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس آيزنهاور (1953م _ 1961م). وأما ألن، فهو ألن دالس، شقيق وزير الخارجية ومدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي. آي. أيه). وقد صدرت الطبعة الأولى من الترجمة العربية لهذا الكتاب في بيروت، عام 2010م، عن شركة المطبوعات والتوزيع والنشر، في 836 صفحة.
وفي ما يتعلق بالوطن العربي، فإن فكرة رسم خريطة جديدة له ليست فكرة طارئة، بل هي فكرة عمرها أكثر من قرن من الزمان. ففي أثناء الحرب العالمية الأولى (1914م _ 1918م)، تم رسم خريطة لاقتسام العراق وبلاد الشام، بين دولتي الانتداب (بريطانيا وفرنسا)، عُرفت باتفاقية سايكس _ بيكو، نسبة إلى الدبلوماسيين، الإنجليزي مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، اللذين رسما تلك الخريطة في مطلع عام 1916م. وقد قُسمت بلاد الشام في تلك الخريطة إلى أربع دول، وهي: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن.
وأثناء الاحتلال الفرنسي لسوريا (تحت اسم الانتداب)، الذي استمر من عام 1920م وحتى 1946م، أي قبل قيام الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1948م، توجهت الحركة الصهيونية إلى الحكومة الفرنسية بمشروع لتقسيم سوريا الحالية إلى أربع دويلات، على أساس طائفي وعرقي، عواصمها: دمشق وحلب واللاذقية والسويداء. وكان الهدف من هذا التقسيم، هو ضمان عدم قيام دولة قوية مجاورة لفلسطين، التي كان قد تقرر تسليمها للحركة الصهيونية، لتقيم عليها دولتها. ولكن تلاحم الشعب العربي في سوريا، بكل أديانه وطوائفه وأعراقه، ومقاومته المسلحة للوجود الفرنسي وانتزاع استقلاله، حال دون تنفيذ هذا المشروع في ذلك الحين.
ولم يمت مشروع التقسيم بفشل تقسيم سوريا في ظل الانتداب الفرنسي، بل جرى تأجيله، حتى تتوفر الشروط اللازمة لنجاحه، مع توسيع دائرته، ليشمل الوطن العربي كله، بما في ذلك الأقطار العربية، التي تحكمها أنظمة موالية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الاستعماري. وقد مثلت حرب الخليج الثانية، في عام 1991م، إشارة استئناف العمل لتحقيق هذا المشروع. وكانت البداية تشغيل المختبر العراقي، الذي يتم فيه تحويل الأفكار والمخططات إلى عمل منظم، يوصل إلى الهدف المنشود، وهو تقسيم العراق أولاً، في إطار دولة اتحادية (فيدرالية)، ثم تعميم تجربة التقسيم على الأقطار العربية الأخرى، بعد نجاحها في العراق.
ولإنجاح هذا المشروع كاملاً، لا بد أولاً من إنجاز المرحلة الأولى منه، وهي مرحلة (الفوضى الخلاقة)، التي تحدث عنها وعن غاياتها بعض كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية. والتي ستضمن نجاح المرحلة الثانية من المشروع (قيام عدة دويلات هزيلة في كل قطر عربي، في إطار الشرق الأوسط الجديد). لأن الفوضى الخلاقة ستمكِّن في تصورهم، وعبر الحرب الأهلية، من إحداث اصطفافات مناطقية وعرقية وطائفية وعشائرية، يتم تحفيزها أثناء الحرب، ليتشكل، وفق هذه الاصطفافات، واقع اجتماعي سياسي جغرافي جديد على الأرض، يتطابق مع خريطة التقسيم الموضوعة سلفاً، مع بعض التعديلات غير الجوهرية، التي قد تفرضها تطورات الأحداث. وسيكون التقسيم الجديد موضع رضى من الشعب، الذي تكون الحرب الأهلية وكوارثها المتعددة الأوجه قد أوصلت معاناته إلى الحد الذي يقبل عنده بأي حلول وبأي تقسيم، يمكن أن يستبدل الخوف بالأمن والتشرد بالاستقرار والفقر المدقع بالكفاف من العيش.
ومرحلة الفوضى الخلاقة هذه تتضمن، كما شاهدنا في العراق، وكما تنبئ الأحداث الدائرة الآن في أقطار عربية أخرى على امتداد الوطن العربي، ومنها اليمن، تتضمن تدمير البنى التحية ومقومات الحياة الطبيعية للإنسان وتفتيت النسيج الاجتماعي. لتتهيأ بذلك الشروط اللازمة لإحداث تقسيم كل دولة من الدول القطرية الحالية، إلى عدة دويلات هزيلة، تحكم كل منها طائفة أو جماعة عرقية أو عصبية قبلية، ولا تمتلك أي منها مقومات الدولة، القادرة على حماية استقلالها وسيادتها وثرواتها والمحافظة على أمنها وسلامة أراضيها.
اخبار التغيير برسوقد بدأ تركيب الوصفة الجديدة في المختبر العراقي، تحت شعار (الدولة الاتحادية)، أي تقسيم العراق الموحد إلى ثلاثة أقاليم: إقليم الجنوب الشيعي وإقليم الوسط السني وإقليم الشمال الكردي، لكل منها حكومته وبرلمانه المستقلين، ليسهل بعد ذلك تحويلها إلى ثلاث دويلات ضعيفة، استناداً إلى مبدأ (حق تقرير المصير). ولكن الأجهزة الاستعمارية المعنية فشلت _ حتى الآن على الأقل _ في تركيب هذه الوصفة. وكان عنوان هذا الفشل، هو تعثر محاولة حكومة وبرلمان إقليم الشمال إقامة دولة مستقلة في المنطقة الشمالية من العراق، عبر التصويت الشعبي، الذي جرى في عام 2017م.
إننا على يقين بأن المشروع الاستعماري (مشروع التقسيم) ليس قضاءً مبرماً لا يمكن مقاومته، ولا قدراً محتوماً لا فكاك منه. فرغم التخطيط المحكم، المدروس بعناية، ورغم ما تم توفيره في كل قطر عربي من شروط لنجاحه، من أموال وشبكات تجسس وإعلام وقيادات سياسية وعسكرية ووجاهات اجتماعية وكتاب ومثقفين ودعم خارجي مستمر ومتعدد الأوجه، فإن إفشاله ممكن. وذلك لأن المخططين أغفلوا، عند رسم مخططاتهم، عنصراً مهماً وحاسماً في المعادلات الراهنة، وهو إراة الشعب العربي. وهذا الإهمال يشكل ثغرة عميقة في مخططاتهم، ستؤدي إلى فشلها، ولن تخلف إلا ذكريات القتل والتدمير والمآسي الانسانية، التي ارتكبها دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، من عتاة المستعمرين. فليس كل ما يريده الكبار وينخدع به بعض الصغار يمكن أن ينجح، إذا صممت الشعوب على الدفاع عن مصالحها وحماية أوطانها وثرواتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، من فيتنام في الطرف الشرقي للكرة الأرضية، إلى كوبا في الطرف الغربي، مروراً بالعديد من البلدان الآسيوية والأفريقية والأمريكية الجنوبية.
ومع ذلك، ورغم فشل مشروع التقسيم في المختبر العراقي حتى الآن، تواصلت جهود القوى الاستعمارية وأجهزتها المختصة وأتباعها المحليين، في إقناع بعض النخب العربية، من السياسيين ووجهاء المناطق، ومعهم بعض الكتاب والمثقفين، بإقامة عدة حكومات وبرلمانات في القطر العربي الواحد، تحت ذريعة إضعاف السلطة المركزية المستبدة الفاسدة، والانتقال من نار حكومة المركز، إلى جنة حكومات الأقاليم وبرلماناتها المستقلة، التي ستتيح لهذه النخب فرصة ممارسة الحكم في أقاليمها والتمتع بمغرياته. ولكن هل يُنتظر من هذه النخب ذاتها، التي مارس بعضها الفساد والاستبداد في المركز، كلما أتيحت له فرصة الوصول إلى بعض مفاصل السلطة المركزية، هل يُنتظر منها أن تمتنع عن ممارستهما في أقاليمها؟.
وقد تحمس بعضنا لمشروع التقسيم هذا، بدلاً من التفكير في صيغ وطنية، تتحاشى إنشاء عدة حكومات وبرلمانات في بلد واحد موحد، وتُمكّن في الوقت نفسه من محاصرة وإضعاف أدوات وآليات الفساد في المركز، صيغ وطنية تقوم على إعادة توزيع السلطات والصلاحيات الإدارية، ومنح الإدارة المحلية، المنتخبة شعبياً بجميع أعضائها، بمن فيهم رئيسها (المحافظ)، منحها سلطات وصلاحيات كاملة، في إدارة كل ما هو شأن محلي، تحت رقابة شعبية منظمة، ومنع سلطات المركز من التدخل في عمل وصلاحيات السلطة المحلية، وتثبيت كل ذلك في الدستور. فإعادة توزيع السلطات والصلاحيات، ستمكن من تحجيم فساد واستبداد المركز، دون الدخول في مغامرة إنشاء عدة حكومات وبرلمانات في البلد الواحد. وهي مغامرة تبدو نهاياتها واضحة في أفق السياسات المرسومة للوطن العربي كله، الهادفة إلى التفتيت، من خلال تحويل الأقاليم مستقبلاً إلى دويلات، استناداً إلى مبدأ (حق تقرير المصير)، الذي سوف يُفعَّل حتماً في كل إقليم، مادامت على رأسه حكومته وبرلمانه المستقلين (كما كاد أن يحدث في شمال العراق)، ولاسيما إذا كان الإقليم يمتلك ثروات طبيعة، من نفط وغاز ومعادن ثمينة، أو يتمتع بموقع جغرافي مهم، بالنسبة لمصالح القوى الخارجية.
لقد كررنا القول دائماً، ومنذ تسعينيات القرن الماضي: إننا بحاجة إلى صيغة وطنية للحكم، يبدعها اليمنيون أنفسهم، ولا تُوحَى إليهم من قوى خارجية، عن طريق السفارات أو الخبراء الدوليين المرتبطين بالسياسات والمصالح الاستعمارية، صيغة تصل إلى تخوم الفيدرالية (الدولة الاتحادية) ولا تلجها، أي لا تقيم حكومات وبرلمانات مستقلة، لما في ولوجها من أخطار مستقبلية على وحدة الأرض والشعب. لقد نشأت الدول الاتحادية في العالم من توحيد دول متفرقة مستقلة أصلاً، توحيدها في كيان سياسي واحد. على خلاف ما يُراد لنا في الوطن العربي، من تقسيم الكيان الواحد إلى كيانات متعددة، واستحداث عدة حكومات وبرلمانات فيه، لكي نصنع منها دولة اتحادية، لن تلبث أن تتمزق إلى دويلات صغيرة، أكثر ضعفاً وهزالاً وتبعية.
ومع أن مشروع التفتيت هذا ما يزال مستمراً، من خلال السعي لإحداث التقسيم على الأرض أولاً، عبر الحروب والاضطرابات الداخلية (الفوضى الخلاقة)، وهو ما يحدث اليوم في الصومال والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان (وقد نجح جزئياً في السودان، بفصل جنوبه عن شماله)، فإنه مشروع يمكن إسقاطه، رغم قدرته التدميرية الهائلة. وسوف يكون مصيره الفشل، بفعل عوامل عديدة، منها الرفض الشعبي له، داخل كل قطر عربي، وتراجع هيمنة القطب الأوحد على العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وهو القطب الذي يتصدر قيادة هذا المشروع، وسعي بعض القوى العالمية الصاعدة إلى فرض واقع تعدد الأقطاب وتوازن المصالح والسياسات في العالم. ويبدو _ حتى الآن على الأقل _ أن هذه القوى الصاعدة غير منخرطة في مشاريع الفوضى الخلاقة وإعادة رسم خريطة جديدة للعالم.
ومن نافلة القول، أنه لولا انخراط بعض النخب والمكونات السياسية العربية، بوعي أو بدون وعي، في السياق العام لمشروع التقسيم الاستعماري، لاستطاع الشعب العربي أن يدفن هذا المشروع في وقت أقصر مما يتوقعه المستعمرون. فالدعاوى التي تصب، بالنتيجة، في مجرى هذا المشروع، ومنها الدعاوى الطائفية والسلالية، التي تواصل استحضار التاريخ وصراعات الماضي البعيد، استحضاراً يضر بحاضر الأمة ومستقبلها، ويخدم المشروع الاستعماري بصورة غير مباشرة، من خلال تعميق الانقسام الاجتماعي وتنشيط الاصطفافات الطائفية والعرقية والمناطقية، وبث الكراهية والنفور بين أبناء الشعب الواحد، هي دعاوى من شأنها أن تسرع في إنجاح مشروع التقسيم الاستعماري. ولا يجدي هنا عداء من يروجون لهذه الدعاوى بمختلف صورها، لا يجدي عداءهم للاستعمار ولأطماعه ومقاومتهم له، لأن العبرة بالنتائج. ونتيجة ترويج أي دعاوى تؤدي إلى تعميق الانقسام الاجتماعي وشرذمة الشعب العربي إلى طوائف وسلالات وأعراق، يعادي بعضها بعضاً، لن تكون إلا إضعاف قدرة الشعب على المقاومة. وهي النتيجة ذاتها، التي تسعى القوى الاستعمارية إلى تحقيقها، كمقدمة ضرورية لإنجاح مشروع (الشرق الأوسط الجديد). إن الخطاب السياسي _ الديني الجامع، الذي يتجاوز الطائفة والسلالة والمنطقة والعشيرة، ويترك التاريخ وأحداثه للدارسين والباحثين فيه، هو وحده المعبر عن إرادة المقاومة لدى الشعب العربي لمشروع التفتيت والتقسيم. وما عدا ذلك لن يخدم إلا هذا المشروع الاستعماري المدمر.
وفي كتاب (إرث من الرماد)، المشار إليه آنفاً، استعرض مؤلفه تيم واينر تاريخ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (السي. آي. أيه ) وآليات عملها ونشاطاتها وعملائها، الذين جندتهم على امتداد العالم، ومن مختلف الجنسيات والمراتب الوظيفية (رؤساء دول وملوك وأمراء ورؤساء وزارات ووزراء وقادة عسكريين وأمنيين وبرلمانيين وأكاديميين وباحثين وكتاب وإعلاميين وزعماء سياسيين ودينيين وقبليين ونشطاء في منظمات المجتمع المدني ورجال أعمال وسماسرة ومهربين...إلخ)، كما استعرض مؤلفه إخفاقات الوكالة في مناطق مختلفة من العالم (في فيتنام وكوريا الشمالية وأمريكا اللاتينية والصومال والعراق والاتحاد السوفييتي ...إلخ)، استعرض كل ذلك من واقع ملفات رسمية، رُفعت السرية عنها، وعلى رأسها ملفات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.
وبعد قراءة هذا الكتاب، الغني بالمعلومات الموثقة، قد يمكن النظر إلى طريقة العمل المعتمدة في تنفيذ السياسات الأمريكية وطريقة تعامل الولايات المتحدة مع العالم الخارجي، قد يمكن النظر إليها من خلال عبارات ثلاث، وردت في خطابٍ لمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (بورتر جوس)، ألقاه في جامعة تيفين الأمريكية، في السادس من مايو 2006م، أمام دفعة جديدة من ضباط (السي. آي. أيه) المتخرجين. فقد تضمنت تلك العبارات نصيحة لأولئك الضباط الشباب "موجزة وتامة"، كما وصفها صاحبها: "لا تعترفوا بشيء، إنكروا كل شيء، ووجهوا اتهامات مضادة" (ص 671 _ 672).
وقد تطرق المؤلف، في سياق استعراضه الشامل للنشاطات الاستخبارية والعسكرية والسياسية والاعلامية الأمريكية على مستوى العالم، تطرق إلى بعض المعلومات المتعلقة بالعدوان على العراق وتدميره، على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وسيكون من المفيد أن نقرأ تلك المعلومات بتمعن، لنقف على طرف من النشاطات المندرجة في سياق المؤامرة الكبرى على الوطن العربي، التي ينكر بعضنا وجودها، رغم تجلياتها الواضحة، ورغم أن الإقرار بوجودها لا يعفينا نحن من مسؤولية ما وصلنا إليه من سوء وتمزق وتخلف وانهيارات متعاقبة، ولا يطهرنا من إثم حروبنا الداخلية، التي يقتل فيها بعضنا بعضاً وندمر بها بلدنا بأيدينا، في سعي حثيث نحو الموت والدمار والتشتت، بدلاً من أن نسعى نحو الحياة والبناء والتوحد. إن أعداءنا لا يستطيعون أن يدمروننا، مهما بلغت قدراتهم وزُينت مشاريعهم وأُحكمت مخططاتهم، ما لم نساعدهم نحن على تدميرنا. ولهذا فإن مسؤوليتنا تجاه كل ما حدث ويحدث، على امتداد الوطن العربي الكبير، مسؤولية جسيمة، تقتضي أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب أعداءنا الذين يتآمرون علينا. فهم بمؤامراتهم يخدمون مصالحهم، فأي مصالح نخدمها نحن؟.